سورة الأنعام - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


ولما نصب سبحانه هذه الدلالات في هذه الآيات البينات حتى ختمها بما علم منهم من الإسراع إلى سب من أحسن إليهم بأن أوجدهم وأوجد لهم كل ما في الكون، وما من نعمة عليهم إلا وهي منه، عجب منهم في الوعد بالإيمان على وجه التأكيد بما يأتيهم من مقترحاتهم إعلاماً بأن ذلك مما زين لهم من عملهم، وهي أمنية كاذبة ويمين حانثة فقال عاطفاً على {وجعلوا لله شركاء الجن} [الأنعام: 100] {وأقسموا} أي المشركون {بالله} أي الذي لا أعظم منه {جهد أيمانهم} أي باذلين فيها جهدهم حتى كأنها هي جاهدة، ووطأ للقسم فقال: {لئن جاءتهم آية} أي من مقترحاتهم، وتلقى القسم بقوله: {ليؤمنن بها}.
ولما كانوا بهذا ظالمين من أجل أنهم طلبوا من الرسول ما ليس إليه بعد إتيانه من المعجزات بما أزال معاذيرهم، وأوجب عليهم الاتباع، نبه على ذلك بقوله مستأنفاً: {قل} أي رداً لتعنتهم {إنما الآيات} أي هذا الجنس {عند الله} أي الحائز لجميع صفات الكمال، وليس إليّ ولا إلى غيري شيء من هذا الجنس ليفيد الاقتراح شيئاً غير إغضابه.
ولما كان العبد لعجزه لا قدرة له على شيء أصلاً، فلا يصح له أن يحكم على آت أصلاً لا من أفعاله ولا من أفعال غيره، قال منكراً عليهم ملتفتاً إلى خطابهم إشارة إلى أنهم حقيقون بالمواجهة بالتبكيت: {وما} أي وأي شيء {يشعركم} أي أدنى شعور بما أقسمتم عليه من الإيمان عند مجيئها حتى يتوهموه أدنى توهم فضلاً عن الظن فكيف بالجزم ولا سيما على هذا الوجه! ثم علل الاستفهام بقوله مبيناً أنه لا فائدة في الإتيان بالآية المقترحة: {أنها} بالفتح في قراءة نافع وابن عامر وشعبة في رواية عنه وحفص وحمزة والكسائي، فكان كأنه قيل: أنكرت عليكم لأنها {إذا جاءت لا يؤمنون} بالخطاب في قراءة ابن عامر وحمزة، والالتفات إلى الغيبة في قراءة غيرهم للإعلام بأنهم بعيدون من الإيمان فهم أهل للإعراض عنهم لما استحقوا من الغضب، والتعليل عند من كسر {أنها} واضح.
ولما كان التقدير: فإنا نطبع على قلوبهم، ونزين لهم سوء أعمالهم، عطف عليه قوله: {ونقلب} أي بما لنا من العظمة {أفئدتهم} أي قلوبهم حتى لا يهتدوا بها {وأبصارهم} حتى لا ينفعهم الإبصار بها، فلا يعتبرون فلا يؤمنون {كما لم يؤمنوا به} أي بمثل ذلك {أو لمرة} أي عند إتيان الآيات التي قبل تلك {ونذرهم} أي نتركهم {في طغيانهم} أي تجاوزهم للحدود {يعمهون} أي يديمون التحير على أن الحال لما فيه من الدلالة لا يقتضي حيرة بوجه. ولما أخبر أنهم لا يؤمنون عند آية مقترحة عمم على وجه مفصل لإجمال ما قبله فقال: {ولو أننا} أي على عظمتنا البالغة بما أشار إليه جمع النونات {نزلنا} أي على وجه يليق بعظمتنا {إليهم الملائكة} أي كلهم فرأوهم عياناً {وكلمهم الموتى} أي كذلك {وحشرنا عليهم} أي بما لنا من العظمة {كل شيء قبلاً} جمع قبيل جمع قبيلة في قراءة من ضم القاف والباء كرغيف ورغف، أي جاءهم ذلك المحشور كله قبيلة قبيلة تترى ومواجهة {ما كانوا ليؤمنوا} أي على حال من الأحوال {إلا أن يشاء الله} أي إلا حال مشيئته لإيمانهم لأنه الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه، فإذن لا عبرة إلا بمشيئته، فالآية دامغة لأهل القدر، ولا مدخل لآية ولا غيرها في ذلك، فلا يطمع أحد في إيمانهم بغير ذلك، ويقرب عندي- وإن بعُد المدى- أن يكون {وأقسموا} معطوفاً على قوله تعالى: {وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه} وهذا من المتعارف في كلام البلغاء أن يحكي الإنسان جملة من كلام خصمه، ثم يشرع في توهينها، ويخرج إلى أمور- يجرّها المقام- كثيرة الأنواع طويلة الذيول جداً، ثم يحكي جملة أخرى فيقول معجباً منه: وقال كذا وكذا، ثم يشرع فيما يتعلق بذلك من النقد والرد، ومما يؤيد ذلك توحيد ختمهما، فختم الأولى {ولكن أكثرهم لا يعلمون} [الأنعام: 37] وختم هذه {ولكن أكثرهم يجهلون} أي أهل جهل مطبوعون فيه، يقسمون على الإيمان عند مجيء آية مقترحة ولا يشعرون أن المانع لهم من الإيمان إنما هو المشيئة وإلا لآمنوا بما جاءهم من الآيات، فإنه كفاية في المبادرة إلى الإيمان، والآيات كلها متساوية الأقدام في الدلالة على صدق الداعي بخرق العادة والعجز عن الإتيان بمثلها.


ولما كان مضمون ما تقدم إثبات عداوة الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم، كان كأنه قيل تسلية له وتثبيتاً لفؤاده: فقد جعلناهم أعداء لك لأنك عالم، والجاهلون لأهل العلم أعداء {وكذلك} أي ومثل ما جعلنا لك أعداء من كفار الإنس والجن {جعلنا لكل نبي} أي ممن كان قبلك، وعبر عن الجمع بالمفرد- والمراد به الجنس- إشارة إلى أنهم يد واحدة في العداوة فقال: {عدواً} وبين أن المراد به الجنس، وأنهم أهل الشر فقال مبدلاً: {شياطين} أي أشرار {الإنس والجن} المتمردين منهم، وربما استعان شيطان الجن شيطان الإنس لقرب قلبه منه، أم يكون نوعه إليه أميل، وأشار إلى هوان أمرهم وسوء عاقبتهم بقوله: {يوحي بعضهم} أي الشياطين من النوعين {إلى بعض} أي يكلمه في خفاء {زخرف القول} أي مزينه ومنمقه.
ولما كان هذا يدل على أنه- لكونه لا حقيقة له- لولا الزخرفة ما قيل، زاده بياناً بقوله: {غروراً} أي لأجل أن يغروهم بذلك، أي يخدعوهم فيصيروا لقبولهم كلامهم كالغافلين الذين شأنهم عدم التحفظ، والغرور هو الذي يعتقد فيه النفع وليس بنافع.
ولما كان أول الآية معلماً أن هذا كان بمشيئة الله وجعله، أيد ذلك ومكنه في آخرها بأنه لو شاء ما كان، وكل ذلك غيرة على مقام الإلهية وتنزيهاً لصفة الربوبية أن يخرج شيء عنها فيدل على الوهن، ويجر قطعاً إلى اعتقاد العجز، فقال: {ولو شاء} ولما كان في بيان أعدائه صلى الله عليه وسلم والمسلطين عليه، أشار إلى أن ذلك لإكرامه وإعزازه، لا لهوانه، فقال {ربك} أي بما له إليك من حسن التربية وغزير الإحسان مع ما له من تمام العلم وشمول القدرة، أن لا يفعلوه {ما فعلوه} أي هذا الذي أنبأتك به من عداوتهم وما تفرع عليها.
ولما قرر أن هذا من باب التربية فعاقبته إلى خير، سبب عنه قطعاً قوله: {فذرهم} أي اتركهم على أيّ حالة اتفقت {وما يفترون} أي يتعمدون كذبه واختلافه، واذكر ما لربك عليك من العاطفة لتعلم أن الذي سلطهم على هذا في غاية الرأفة بك والرحمة لك وحسن التربية كما لا يخفى عليك، فثق به واعلم أن له في هذا لطيف سريرة تدق عن الأفكار، بخلاف الآيات الآتية التي عبر فيها باسم الجلالة، فإنها في عظيم تجرئهم على مقام الإلهية.
ولم كان التقدير: ذرهم لتعرض عنهم قلوب الذين يؤمنون بالآخرة وليسخطوه، وليعلموا ما هم له مبصرون وبه عارفون، فترفع بذلك درجاتهم، عطف عليه قوله: {ولتصغى} أي تميل ميلاً قوياً تعرض به {إليه} أي كذبهم وما في حيزه {أفئدة} أي قلوب {الذين لا يؤمنون بالآخرة} أي ليس في طبعهم الإيمان بها لأنها غيب، وهم لبلادتهم واقفون مع الوهم، ولذلك استولت عليهم الدنيا التي هي أصل الغرور {وليرضوه} أي بما تمكن من ميلهم إليه {وليقترفوا} أي يفعلوا بجهدهم {ما هم مقترفون} وهذه الجمل- كما نبه عليه أبو حيان- على غاية الفصاحة، لأنه أولاً يكون الخداع فيكون الميل فيكون الرضى فيكون فعل الاقتراف، فكأن كل واحد مسبب عما قبله.


ولما كان فيما تقدم الإخبار عن مغيب، وهو أنهم لا يؤمنون عند مجيء الآيات المقترحة، وكانت عادة العرب دعاء الأعداء والمخالفين إلى حاكم يفصل بينهم، وكانوا إنما يفزعون في الأمور المغيبة إلى الكهان لما كانوا يكشفون لهم بما يقذف إليهم إخوانهم من الجان مما يسترقونه من السمع، فيزيدونه كذباً كثيراً، ثم لا يضرهم ذلك عندهم لذلك القليل الذي يصدقون فيه- كما ابتلينا به في هذا الزمان من الافتتان بمن يفعل مثل ذلك من المجانين والمتشبهين بهم، وكانت الآيات التي فرغ منها قد أثبتت أن اتخاذهم غرور، سبب عن ذلك وجوب نفي اتخاذهم غير الله لما اتصف به من إيحاء ما خالف إيحاءهم، ففات القوى في إخباره عن حقائق الأمور مفصلة أحسن تفصيل في أساليب قصرت دونها سوابق الأفكار، وكعّت عنها نوافذ الأفهام، فثبتت به نبوته ووضحت رسالته، فكان اقتراحهم ظاهراً في كونه تعنتاً لأنهم كذبوا بأعظم الآيات: القرآن، ولم يؤمنوا به، وطعنوا فيه بما زادهم فضائح، فثبت أنه لا فائدة في إجابتهم إلى مقترحاتهم، فكان الجواب- عما اقتضاه لسان حالهم من طلب التحاكم إلى أوليائهم ببليغ الإنكار عليهم بقوله: {أفغير الله} أي الملك الأعظم- على غاية من البلاغة لا تدرك، والفاء فيه للسبب، وإنما تقدمت عليها همزة الإنكار لاقتضائها الصدر {أبتغي} أي أطلب حال كون ذلك الغير {حكماً} أي يحكم بيني وبينكم ويفصل نزاعنا؛ ثم استدل على هذا الإنكار بتفصيل الكتاب هذا التفصيل المعجز فقال: {وهو} أي والحال أنه لا غيره {الذي أنزل إليكم} أي خاصة نعمة علي بالقصد الأول وعليكم بالقصد الثاني {الكتاب} أي الأكمل المعجز، وهو هذا القرآن الذي هو تبيان لكل شيء {مفصلاً} أي مميزاً فيه الحلال والحرام، وغير ذلك من جميع الأحكام، مع ما تفيده فواصل الآيات من اللطائف والمعارف الكاشفة لحقائق البدايات والنهايات، ولقد اشتد الاعتناء في هذه السورة بالتنبيه على التفصيل لوقوع العلم من أرباب البصائر في الصنائع بأن من لا يحسن التفصيل لا يتقن التركيب.
ولما كان التقدير: فأنتم وجميع أرباب البلاغة تعلمون حقيقته بتفصيله والعجز عن مثيله، عطف عليه قوله: {والذين} ويجوز أن يكون جملة حالية {آتيناهم} أي بعظمتنا التي تعرفونها ويعرفون بها الحق من الباطل {الكتاب} أي المعهود إنزاله من التوراة والإنجيل والزبور {يعلمون} أي لما لهم من سوابق الأنس بالكتب الإلهية {أنه منزل}.
ولما تقدم ذكر الجلالة الشريفة في حاق موضعه في سياق الحكم الذي لا يكون إلا مع التفرد بالكمال، وكان هذا المقام بسياق الإنزال يقتضي الإحسان، لم يضمر بل قال: {من ربك} أي المحسن إليك بما خصك به في هذا الكتاب من أنواع الفضائل {بالحق} أي الأكمل لما عندهم به من البشائر في كتبهم ولما له من موافقتها في ذكر الأحكام المحكمة والمواعظ الحسنة وكثرة ذكر الله على وجوه ترقق القلوب وتفيض الدموع وتصدع الصدور، مع ما يزيد به على كتبهم من التفصيل بما يفهم معارف الإلهية والمقامات الصوفية في ضمن الأحكام السياسية والإعجاز بكل آية.
ولما كان أهل الكتاب يخفون ما عندهم من العلم، ويقولون للمشركين: إنهم أهدى سبيلاً، بما قد يوهم أنهم يعتقدون بطلانه، أو أن الأمر ملبس عليهم، سبب عن إخباره سبحانه قوله على طريق التهييج والإلهاب: {فلا تكونن} أي انف نفياً مؤكداً جداً أن تكون في وقت ما {من الممترين} أي العاملين عمل الشاك فيما أخبرناك به وإن زاد إخفاؤهم له وإظهارهم لما يوهم خلافه؛ وإذا حاربتهم في ذلك وأنت أفطن الناس وأعرفهم بما يظهره المجاوزات من خفايا الأسرار- تحققت ما قلناه وإن اجتهدوا في الكتمان، كما كشفت عنه قصة المناشدة في أمر الزانيين وغيرها؛ وقال أبو حيان: قال مشركو قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعل بيننا وبينك حكماً من أحبار اليهود، وإن شئت من أساقفة النصارى، ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزلت.
ولما دل على كونه حقاً من عند الله بعلم أهل الكتاب صريحاً وأهل اللسان تلويحاً، دل عليه بوجه آخر شهودي، وهو أنه ما قال شيئاً إلا كان على وفق ما قال، وأنه لم يستطع- ولا يستطيع أحد- منع شيء مما أخبر به ولا تعويقه ساعة من نهار ولا أقل ولا أكثر بقوله تعالى مظهراً في موضع الإضمار، لتذكيره صلى الله عليه وسلم بما له سبحانه من الإحسان، والتنبيه على ما يريد به من التشريف والإكرام: {وتمت} أي نفذت وتحققت {كلمة ربك} أي المحسن إليك المدبر لأمرك حال كونها {صدقاً} أي لا يقدر أحد أن يبدي في شيء منها حديثاً بتخلف ما عن مطابقة الواقع.
ولما كان الصدق غير مناف للجور، قال: {وعدلاً} ولما كان الصدق العدل قد لا يتم معه مراد القائل، ولا ينفذ فيه كلام الآمر لمنع من هو أقوى منه، أخبر أنه لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، تصريحاً بما أفهم مطلع الآية من التمام، وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتبركاً وتلذيذاً فقال: {لا مبدل لكلماته} أي من حيث إنها كلماته مطلقاً من غير تخصيص بنوع ما، بل كل ما أخبرت به فهو كائن لا محالة، رضي من رضي وسخط من سخط.
ولما كان المغير لشيء إنما يتم له ما يريد من التغيير بكون المغير عليه لا يعلم الأسباب المنجحة لما أراد ليحكمها، والموانع العائقة ليبطلها، قال عاطفاً على ما تقديره: فهو العزيز الحكيم: {وهو} أي لا غيره {السميع} أي البالغ السمع لجميع ما يمكن سمعه من الأقوال والأفعال {العليم} أي البالغ العلم لجميع ذلك، فهو إذن الكامل القدرة النافذ الأمر في جميع الأسباب والموانع، فلا يدع أحداً يغير شيئاً منها وإن دلس أو شبه.
ولما أجاب عن شبهات الكفار، وبين صحة نبوته عليه السلام، شرع في الحث على الإعراض عن جهل الجهال، والإقبال على ذي الجلال، فكان التقدير: فإن أطعته فيما أمرك به اهتديت إلى صراط الله الذي يتم لك بسلوكه جميع ما وعدك به، عطف عليه قوله: {وإن تطع} ولما كانت أكثر الأنفس متقيدة بالأكثر، أشار إلى أن ذلك لا يفعله إلا جاهل مخلد إلى التقليد فقال: {أكثر من في الأرض} أي توجد طاعتك لهم في شيء من الأوقات بعد أن علمت أن أكثرهم إنما يتبع الهوى، وأن أكثرهم فاسقون لا يعلمون لا يشكرون {يضلوك عن سبيل الله} أي المستجمع لصفات الكمال؛ ثم علل ذلك بقوله: {إن} أي لأنهم ما {يتبعون} في أمورهم {إلا الظن} أي كما يظن هؤلاء جهلاً أن آباءهم كانوا على الحق.
ولما كان أكثر من يجزم بالأمور بما دعاه إليه ظنه كذباً، وكان الخارص يقال على الكاذب والمخمن الحازر، قال: {وإن هم} أي بصميم ضمائرهم {إلا يخرصون} أي يجزمون بالأمور بحسب ما يقدرون، فيكشف الأمر عن أنها كذب، فيعرف الفرق بينك وبينهم في تمام الكلام ونفوذه نفوذ السهام، أو تخلفه عن التمام ونكوصه كالسيف الكهام، فلا يبقى شبهة في أمر المحق والمبطل.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14